تعتبر تقنية الجيل الخامس اليوم أحد أهم عناصر الثورة الصناعية الرابعة بالنظر لما توفره شبكات الجيل الخامس (5G) من مزايا ثورية عديدة يمكن تلخيصها بسرعة فائقة في الاتصال ونقل البيانات، وزمن استجابة قياسي وخدمة العدد الأكبر من نقاط الاتصال بين الألة والآلة والإنسان. وتتسارع وتيرة التغيير الذي تُحدِثه مخرجات هذا الجيل المتطور من الاتصالات اللاسلكية في كافة المجالات والقطاعات. وقد بدأ العالم فعليًا بتطبيق فعلي لهذا الجيل المتطور من الاتصالات اللاسلكية في عام 2019، ومن المتوقع أن نشهد قفزات في هذا المجال من شأنها الارتقاء بكل ما نقوم به في حياتنا اليومية.
لن تأذن شبكات الجيل الخامس ومخرجاتها بدخول حقبة جديدة من تحسين أداء الشبكة وسرعتها فحسب، بل ستوفر تجارب اتصال جديدة للمستخدمين في كافة المجالات، كالرعاية الصحية والنقل وصناعة السيارات والتعليم والمجالات الصناعية، والإعلام، والترفيه، والزراعة، وإنترنت الأشياء، والمنازل الذكية، والقطاع اللوجستي والشحن والأمن والمراقبة، وغيرها. ولعل أهم ما في الأمر أن تقنية الجيل الخامس سترتقي بمفهومها الشامل وقدرات ربطها ودمجها بتقنيات ثورية أخرى كالذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية بالصناعات والقطاعات المعتمدة على البيانات الضخمة، ومن ذلك أسواق المال والتحليلات الخاصة بالأنظمة المالية والتسويق والتوقعات في كافة المجالات.
ففي مجال الرعاية الصحية، على سبيل المثال، سترتقي تقنيات الجيل الخامس بنهج العناية بالمرضى عن بعد وربط بيانات المشافي عبر أجهزة متصلة تقدِّم باستمرار بيانات حول المؤشرات الصحية الرئيسة، وصولًا إلى إجراء العمليات الجراحية عن بعد. وكان النجاح المبهر الذي حظيت به أول تجربة لإجراء عملية جراحية معقدة عن بعد باستخدام شبكة الجيل الخامس علامة فارقة في عالم الطب، والتي أجراها جرَّاح صيني في مطلع عام ٢٠١٩، حيث قام بإزالة أجزاء من كبد حيوان، دون الحاجة لمغادرة عيادته والذهاب إلى المستشفى، حيث أجرى العملية عبر الإنترنت وعن بعد ٥٠ كم.
توالت بعد ذلك النجاحات التي شهدتها العمليات الجراحية عن بعد باستخدام تقنيات الجيل الخامس. وبات هذا الإنجاز الطبي المعتمد على التكنولوجيا يوفر حلولًا ناجعة للتجاوب مع الكوارث الطبيعية والبشرية في أصقاع الأرض. إذ يمكن لجراحون في أوروبا القيام بعمليات جراحية عن بعد لجرحى زلزال مدمر في آسيا، عندما لا تتوفر الخبرات الطبية الكافية في الموقع المنكوب. كذلك تكتسب إمكانيات الجيل الخامس أهمية خاصة في قطاعات حيوية أخرى كالنفط والغاز التي تتطلب العديد من العناصر البشرية العاملة وفق ظروف مناخية وجغرافية صعبة يمكن استبدالها بالأنظمة المأتمتة والمراقبة عن بعد التي توفر الكثير من الجهد والمال.
وقد أثبت النمو الذي حققه سوق الجيل الخامس في الكويت في النصف الأول من العام الحالي أن استثمارات الدولة في الجيل الخامس آتت أُكُلَها، فهي لا تساعد شركات الاتصالات على تعزيز أعمالها ورفع مستوى إيراداتها فحسب، بل توفر اتصالات أفضل وتجارب ومميزات وإمكانيات وقِيمًا مضافة جديدة للأفراد والمؤسسات. ولا شك بأن مزيدًا من التخطيط والتنفيذ للاستفادة من ابتكارات الجيل الخامس – بما يتناسب مع متطلبات السوق – سيُسهم في تعزيز عمل الشبكات وتوفير المزيد من التقنيات المبتكرة، وتحقيق قيمة كبرى لأعمال المشغلين والمجتمع بأكمله.
لا شك أن الجيل الخامس يؤدي دوره على مستوى تعزيز أعمال شركات الاتصالات في دول مجلس التعاون الخليجي. كما يوفر بنية تحتية متماسكة يمكن لبقية قطاعات الاقتصاد الرقمي أن تعتمد عليها. لذا تركز الخطط والاستراتيجيات التنموية التي وضعتها الحكومات على الجيل الخامس؛ للحد من الاعتماد على النفط، وتحقيق التحول الرقمي، وبناء المدن المتصلة، ووضع التقنيات الرقمية في متناول الجميع؛ من أجل تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية على المدى الطويل.
وستؤدي جهود رفع وتيرة الاعتماد على الجيل الخامس في دول الخليج إلى ابتكار العديد من الاستخدامات المهمة، التي لن تعود بالنفع على مشغلي الاتصالات فحسب، بل ستسهم أيضًا في تعزيز الأعمال، ودفع عجلة التنمية في البلاد بأكملها. وتوقعت شركة “أناليسيس ماسون” الاستشارية أن يؤدي الجيل الخامس دورًا كبيرًا في تعزيز التنمية الاقتصادية في الكويت من خلال رفد الناتج المحلي الإجمالي بما يزيد على 1 مليار دولار بحلول عام 2025، وأن يوفر التحول الرقمي 25000 فرصة عمل في البلاد. ويمكن للحكومة الكويتية أن تعتمد على الابتكارات الحديثة لتعزيز شبكات الجيل الخامس ودمجها بالتقنيات الأخرى المتطورة، كالحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي؛ من أجل الحصول على مميزات إضافية على صعيد تحسين الرعاية الصحية والتعليم، والحد من الازدحام على الطرق، والمظهر الجمالي للمدن، وابتكار طرق جديدة للاتصال تتناسب مع طموحات الأفراد والشركات.
على الرغم من أن تكنولوجيا الجيل الخامس تلعب دورًا هامًا في بناء البنية التحتية الجديدة، لا يزال العديد من مشغلي الاتصالات في طور استكشاف الفرص الحقيقية الكامنة في هذه التقنية على مستوى المزايا والإمكانيات التي توفرها لسائر القطاعات والصناعات الأخرى، وهنا يبرز دور الشركات العالمية الرائدة في مجال تقنيات وشبكات الجيل الخامس لتقديم حلول للتحديات الحالية والمستقبلية، والارتقاء بمخرجات شبكات الجيل الخامس، وتسخيرها للاستفادة منها في كافة المجالات.
وعند ذكر الجيل الخامس، لا يمكن تجاهل العملاق الصيني هواوي الذي برز بقوة في مجال بناء شبكات وتطبيقات الجيل الخامس واستطاع التربع على قمة هرم ريادتها العالمية بفضل أسبقية الاستثمار في مجال البحث والتطوير على هذه التقنية الذي بدأه في 2009 وأنفق عليه ما يزيد عن 4 مليار دولار. وشنت ضده الإدارة الأمريكية السابقة حملة واسعة النطاق ضد الشركة بحجة الأمن السيبراني، يراها العديد من المحللين كذريعة لعودة هيمنة أمريكا على التكنولوجيا الحديثة وسحب البساط من تحت أقدام الصينيين الذين أثبتوا ريادتهم في هذا المجال. ولم تمنع العقوبات الأمريكية هواوي من استمرارها في التركيز على قسم البحث والتطوير لقيادة مسارات جديدة من نمو الأعمال واستكشاف فرص جديدة لتقنية الجيل الخامس من خلال ربطها بالتقنيات المستقبلية الأخرى وأهمها السحابة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي. ففي عام 2020، وعلى الرغم من تراجع أرباح الشركة بتأثير العقوبات الأمريكية، عززت هواوي استثماراتها في البحث والتطوير ليصل أنفاقها في هذا المجال إلى 21.8 مليار دولار، متفوقة بذلك على الشركات الأمريكية والغربية. وكثفت الشركة جهودها لإيجاد البدائل لأشباه الموصلات بتقنية أمريكية التي حرمت منها بإضافتها للقائمة السوداء. كما أطلقت خطوط أعمال جديدة لها مثل السيارات الكهربائية، مما يعكس مرونة خططها المستقبلية وحرصها للوصول للاكتفاء الذاتي بعيداً عن أية معوقات ترتبط بالعقوبات الأمريكية والخط الجيوسياسي المرتبط بتقنية الجيل الخامس.
لا شك أن الجيل الخامس يوفر بنية تحتية تؤدي دوراً جوهرياً إما في تحقيق الطموحات ببناء دولة ذكية وواحدة من أكبر الاقتصادات الرقمية على المستوى العالمي أو في تحطيم هذه الطموحات. والجيد في الأمر بأننا أصبحنا نرى شركات خاصة عالمية كهواوي أحد المساهمين الرئيسيين في تشجيع جيل الشباب على الانخراط في التكنولوجيا وتدريبهم وإعدادهم ليكونوا قادة المستقبل. والشركة مساهم بارز في مجموعة المسؤولين عن أمن الجيل الخامس والعاملين الفاعلين على تطوير المعايير والمقاييس الدولية لمواصفات الأمان كما هو الحال في مشروع شراكة الجيل الثالث التي تعتبر المنظمة العالمية المسؤولة عن إصدار معايير الجيل الخامس التي تتفق عليها كل الدول، حيث تُعتبر هواوي واحدة من أكبر المساهمين في هذا المشروع الحيوي لمستقبل البشرية. كما تم تعيين العملاق الصيني رئيساً مشاركاً لمجموعة العمل على ضمان أمن الجيل الخامس في فريق الاستجابة للطوارئ الحاسوبية والذي تشارك فيه ١٠ دول من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، حيث تتعاون الدول المشاركة على توفير إطار عمل لأمن الجيل الخامس بحلول نهاية العام الحالي.
وتستحوذ الشركة على أكبر حصة من براءات الاختراع الخاصة بالجيل الخامس من الاتصالات على مستوى العالم. ويرى الخبراء أن دفع عجلة التطور والتحول الرقمي وتبني تقنيات ومخرجات الجيل الخامس من الاتصالات يتطلب تضافر الجهود من الجميع، ومنهم: شركات الاتصالات والجهات الحكومية والتنظيمية والأكاديمية والعلمية والبحثية والتجارية ومزودو الخدمات. ولا ننسى أبداً بأن أهم محاور الاستفادة من الجيل الخامس والتقنيات المتطورة الأخرى يكمن في الموارد البشرية المحلية، حيث لا بد من إعداد قادة الغد من جيل الشباب الذين ستقع على عاتقهم قيادة ثورة التكنولوجيا والاستفادة من مكتسباتها لصالح تحقيق الخطط والرؤى الوطنية.
اترك تعليقاً