احمرنا المقدس

20130423-225438.jpg

كويت نيوز :

الأحمر في بريطانيا لون ثقيل الظل تماما كما أحمر العرب، وإن كان أكثر لزوجة وأقل تدفقا. ولأنه يستفز ثيران المشاعر ويضرب بعنف معاقل الغضب، فقد ظل محظورا هناك كما كان محظورا هنا قبل أن تحل على بلادنا نسائم الثورة التي خففت قليلا من عزلته في دنيا الناس. لكن بعد تجاهله لسنوات، عاد الأحمر هناك ليصبح عنوان المرحلة هناك ويصبغ ملامح المرحلة هنا مع اختلاف غير قليل في الكثافة والقرمزية.
وفور عودته لتصدر عناوين الأخبار وصدور المجالس، احتدم النقاش بين المفكرين وأصحاب الرأي وانقسموا بين مؤيد ومعارض. الغريب أن المدافعين عن عودته اليوم هم الليبراليون الذين يرون أنه مجرد لون وأنه لا يجب أن يكون هناك قدسية للألوان في مجتمع يحترم الفكر والإبداع والمسئولية. أما بلادنا الممتدة في شرايين الخوف كالزئبق، فقد تخلت جميع أطيافها السياسية والفكرية عن تحفظاتها التقليدية تجاهه. بل وتعمد البعض تغطية الخلفيات بلونه العاري كطفل يصرخ في العراء.
لكن بعض الفروق الطفيفة بين أحمرنا وأحمرهم تكاد لا تغني ولا تسمن من حماقة لا سيما عند من باعوا رؤوسهم للشيطان وتاريخهم للريح. فأحمرنا مضمخ بسياج مشترك ولقمة تعايش مقتسمة ورائحة مسك تفوح في جنبات التاريخ الذي فقد عقله تحت دقات البنادق وهتافات الثوار. أما أحمرهم اليابس الذي يجف فور إراقته ويترك ذكريات لا تنسى في أفئدة الصغار فهو حري بالطمس والتهكم. بالإضافة إلى أنه بارد كالثلج على لوح من الرخام الأبيض في ليلة شديدة البرودة. أما أحمرنا، فهو لا يجف ولا تشربه الأرض، وإن كان البعض يتعاطاه آناء الليل وأطراف النهار مع حبوب طمس الذات ووأد الهوية.
لكن الثورة على أحمرهم بدأت تعرف ميادينهم الربيعية مؤخرا بعد أن ثار المعلمون على الأغطية التي وضعها بوب بلاكمان على مقدمات أقلامهم الحمراء بقانون حرم معلمي الأجيال من ترك بصمتهم باللون الذي يفضلونه. لم يعد في بريطانيا مكان لفكر الرجل العتيق ومنطقه القديم، وطالما أن قانون الحظر لا يسرى على الطلاب، فالأولى أن يمسك كل معلم بلونه ليميز الطالب هناك بين الخطأ والأحمر.
أحمرهم ليس خطأ ولا خطيئة، ولا يستحق إدانة المحافظين هناك، ومن حق كل شريف في بريطانيا أن يرفع قبعته لكل معلم نزل إلى الميدان التعليمي رافعا غطاء أحمره في وجه بلاكمان وأنصاره من الرجعيين. صحيح أن لونه المستفز سيؤذي حتما مشاعر الطلاب الذين لم يروا الأحمر في شوارعهم وفوق شراشفهم ووساداتهم البيضاء. صحيح أن برامجهم الطفولية لا تغطيها نشرات الأحمر وأن قصصهم الليلية لا تعرف الغيبان والسباع والثعالب. لكن، يجب أن يتعلم الطلاب بأي لون وإن كان أحمرا حتى يتجنبوا أحمرنا في الطرقات والميادين والمساجد.
أما أحمرنا المقدس الذي يتداعى لسفكه أصحاب الرؤوس الفارغة من كل طيف لم يجد من يوقف نزفه ويأمر بتغطيته حفاظا على ما تبقى من رأفة في قلوب أبناء الجيل. فلكل أحمر عندنا نخاسوه، الذين يحلفون بوكيد الأيمان أن صاحبه شهيد، ويبرر نزفه عرابو الديمقراطية والليبراليون والإسلاميون في شبقية غريبة نحو الفناء. فمتى تتوقف الأواني المستطرقة في بلادنا الحزينة عن تحويل أحمرنا إلى فلسفات فارغة ومساجلات تافهة ليخرج كل فريق بلوحة تاريخية مخجلة. ومتى يتوقف ثيراننا الذين يثيرهم الأحمر ويدفعهم إلى الركض خلف كل ناعق كثيران مستنفرة تتجه نحو أسفل منتصف أي هدف بعين واحدة؟

الكاتب :

عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات

شاهد أيضاً

وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنّنا نعْلَمُ أَنَّكَ تَكْذِبُ

عند السماع لتصريح وزير خارجية امريكا الذي قال بكل فضاضة ان الخارجية الأمريكية لم نر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كويت نيوز

مجانى
عرض